اخبار الامارات

 اتجاهات مستقبلية   

 

اتجاهات مستقبلية

الأمن المائي الخوارزمي: مخاطر الأنظمة السيبرانية-الفيزيائية على البنى المائية الحيوية

 

 

لا غرو أن الأمن المائي يشكّل أحد أعمدة الأمن القومي والإنساني في القرن الحادي والعشرين، ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى قطاع المياه، تتضاعف الفرص والمخاطر على حد سواء. إذ باتت أنظمة التوزيع والمعالجة والتحلية تعتمد بصورة متزايدة على خوارزميات تنبؤية، وأنظمة سيبرانية-فيزيائية معقدة ومتقدمة Cyber-Physical Systems Advanced تعمل على تحسين الكفاءة التشغيلية. بيد أنّ هذا التحول الرقمي يفتح الباب أمام بُعد جديد وغير اعتيادي في ملف الأمن المائي ألا وهو “الأمن المائي الخوارزمي”، الذي يمزج بين قضايا الحوكمة الخوارزمية وحماية البنى المائية من التهديدات السيبرانية.

وبمراجعة الأدبيات الحديثة في هذا الصدد نجد أنها تُشير إلى أنّ هناك منصات تجريبية جديدة في هذا المجال مثل: ACWA (AI Cyber-Physical Watermarking testbed) ، إذ تمثّل مثل هذه المنصات طفرة في تحليل المخاطر الرقمية لأنظمة المياه. فقد صُمم هذا النظام ليحاكي شبكات المياه والزراعة عبر توليد بيانات واقعية في الزمن الحقيقي، تسمح بدراسة كيفية استغلال الهجمات السيبرانية للنقاط الضعيفة في أنظمة المراقبة والتحكم في الأنظمة المائية. وبينت نتائج الاختبارات أن التلاعب البسيط ببيانات أجهزة الاستشعار يمكن أن يؤدي إلى خلل واسع في عمليات الضخ وجودة المياه، ما يعكس خطورة التهديدات الرقمية إذا لم تُدمج آليات الحماية ضمن تصميم الأنظمة منذ البداية.

وعلى صعيد الكشف عن الهجمات، أظهرت بحوث منشورة في دوريات علمية متخصصة مثل دورية Journal of Water Resources Planning and Managementأنّ تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة مثل الشبكات العصبية العميقة (DNN) تتفوق في كشف الشذوذات على الأساليب التقليدية مثل آلات الدعم الناقل (SVM)، ففي تجارب محاكاة تضمنت إدخال هجمات سيبرانية على أنظمة توزيع المياه، حققت نماذج DNN معدلات دقة تجاوزت 94% في رصد الشذوذ مقارنة بـ 81% لطرق أخرى، ما يؤكد إمكانية توظيف الخوارزميات في بناء أنظمة إنذار مبكر سيبراني لحماية إمدادات المياه.

أما من زاوية تحليل المخاطر، فقد طُوّرت نماذج تجمع بين العوامل التقنية والسلوكية، مثل CPRISK-ABM، الذي يعتمد على المحاكاة متعددة الوكلاء (Agent-Based Modeling) هذا النموذج يدمج دوافع المهاجمين مع التكوين الأمني للبنية المائية، ما يتيح تصورًا واقعيًّا لكيفية تطور التهديدات. حيث بينت تطبيقات النموذج أن سيناريوهات الهجمات لا تتحدد فقط بالثغرات التقنية، بل أيضًا بالمتغيرات التنظيمية والسلوكية مثل الاستجابة البشرية والإجراءات المؤسسية. وعليه يمكن القول إن ما سبق يوضح بجلاء أنّ الأمن المائي لم يعد محصورًا في “تقنية الحماية”، بل بات يتطلب تكاملًا بين التكنولوجيا والحوكمة الاجتماعية.

وبتتبع الحوادث ذات الصلة، يمكن تعزيز المخاطر النظرية السابقة بأدلة واقعية، ففي الولايات المتحدة، أظهرت بيانات وكالة حماية البيئة (EPA)في تقرير صادر عنها في 13 نوفمبر 2024 أنّ نحو 193 مليون شخص قد يتأثرون مباشرة في حال استهداف أنظمة المياه بهجمات سيبرانية. كما كشفت الوكالة أن 97 نظامًا مائيًّا وطنيًّا يقع في فئة “التهديدات الحرجة”، بينما صُنّف 211نظامًا في فئات المخاطر المتوسطة أو المنخفضة. وتزداد خطورة الوضع في ظل محدودية الموارد؛ إذ تعترف الوكالة أنّ قدرات الأمن السيبراني لدى أنظمة المياه المحلية أقل بكثير من المطلوب لمواجهة التهديدات المتقدمة.

ولتكتمل صورة المخاطرة المحيطة بالأمن المائي، تُشير تقديرات بوجود ثغرات بنيوية في قطاع البنى التحتية الأميركي، إذ تشير التقديرات إلى أنّ 85%من المرافق الحيوية – بما في ذلك شبكات المياه – تفتقر إلى دعم كافٍ في مجال الأمن السيبراني. هذا العجز يضع الأمن المائي أمام تحدٍ مزدوج: تقنيٍّ يتمثل في حماية الأنظمة الذكية من الاختراق، وسياساتيٍّ يتجسد في ضرورة توفير الموارد والقدرات البشرية المؤهلة.

في النهاية تبدو الحاجة ملحة إلى إطار حوكمة خوارزمية يتجاوز الجانب التقني إلى قضايا الشفافية والمساءلة. فاعتماد الخوارزميات في إدارة المياه يستوجب ضمانات تتيح تفسير القرارات وتحدد المسؤولية في حال حدوث خلل أو هجوم ناجح. وقد دعت دراسات غربية حديثة في مجال حوكمة الذكاء الاصطناعي إلى ضرورة إدراج هذه القواعد في الأنظمة الحيوية، وإلا فإن الاعتماد غير المقيد على الذكاء الاصطناعي قد يفاقم المخاطر بدلًا من تقليلها.

في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إنّ “الأمن المائي الخوارزمي” يشكّل بعدًا جديدًا لكل من الدراسات الأمنية، والدراسات المائية معًا، ويستلزم رؤية متكاملة تدمج التكنولوجيا، والحوكمة، والسياسات العامة. فحماية المياه في عصر الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على منع التلوث أو ترشيد الاستخدام، بل تتطلب أيضًا بناء أنظمة مرنة أمام الهجمات السيبرانية، ووضع أطر قانونية وأخلاقية لإدارة القرارات الخوارزمية. خاتمة القول: إن هذا المنظور المتقدم لا يُضيف إلى الأدبيات الأكاديمية فقط، بل يقدّم أيضًا حلولًا عملية يمكن أن تساعد الحكومات والمجتمعات في حماية أحد أثمن مواردها على الإطلاق ألا وهو الماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى