عاصفة ترامب التجارية تتحول إلى هدنة.. بكين تراهن على رجل الصفقات

قال تحليل نشرته “فورين أفيرز” إنه بعد فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2024، ساد القلق الأوساط في بكين.
فقد أعادت ذاكرة الحرب التجارية التي اندلعت خلال ولايته الأولى إلى الواجهة، لتترافق مع اقتصاد صيني متباطئ، وهشاشة واضحة في الاعتماد المتبادل تجارياً مع الولايات المتحدة.
في الخفاء، تحدث بعض الخبراء الصينيين عن “عاصفة غير مسبوقة” قد تدمر ما تبقى من العلاقات الثنائية. لكن وبعد مرور نحو ستة أشهر فقط من الولاية الثانية لترامب، تحوّل القلق إلى ثقة مفاجئة.
فالعاصفة، بحسب وصف المسؤولين في بكين، جاءت ومضت، وخرجت الصين منها أكثر قناعة بأنها تملك نفوذاً أكبر بكثير على الولايات المتحدة، خاصة في ملف التجارة، مما كانت تعتقد سابقاً.
من خصومة إلى فرصة تفاوض
واليوم، يرى صناع القرار الصينيون أن ترامب، رغم هوسه المزمن بالعجز التجاري، شريك أكثر واقعية وقابلية للتفاوض من الصقور المعادين للصين الذين سيطروا على السياسة الأمريكية خلال ولايته الأولى. وتراهن بكين على إمكانية التوصل إلى صفقة تجارية تهدئ التوترات، ويجري التحضير لقمة محتملة بين ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ في الخريف المقبل، بهدف إعادة ضبط نبرة العلاقة بين القوتين.
ومع ذلك، لا يُنظر إلى هذه الانفراجة كتحول استراتيجي دائم. فما زال يُنظر إلى العلاقة الأمريكية الصينية كتنافس طويل الأمد، يتجاوز الاقتصاد ليشمل الجوانب السياسية والأمنية. لكن بالنسبة لبكين، فإن أي صفقة تجارية مع ترامب تمثل فرصة لشراء الوقت، والتخفيف من مكامن الضعف الداخلية، والاستعداد لمواجهة الصراعات المستقبلية.
وعندما تولى ترامب المنصب في يناير/كانون الثاني 2025، استعدت بكين لسيناريو يشبه ما حدث خلال ولايته الأولى: موجة جديدة من الرسوم الجمركية، وهجمات على النظام السياسي الصيني، ودعم متزايد لتايوان. إلا أن الواقع فاجأ المسؤولين الصينيين. فبدلاً من الخطاب الإيديولوجي المعادي، تبنّت إدارة ترامب الثانية نهجاً أقل تصادمية، وأكثر تركيزاً على التجارة كأولوية.
وفي خطوة أثارت الدهشة، فرض ترامب في يوليو/تموز الماضي رسوماً جمركية بنسبة 20% على صادرات تايوان إلى الولايات المتحدة. كما رفض السماح للرئيس التايواني لاي تشينغ-تي بالمرور عبر نيويورك خلال جولة دولية، في كسر للتقاليد الأمريكية في التعامل مع تايوان. في عيون بكين، هذه التحركات ترسل إشارات واضحة: ترامب معني بالصفقات، لا بالمواجهات الجيوسياسية.
وبهذا المعنى، يرى صناع القرار الصينيون أنهم حصلوا أخيراً على “رجل الأعمال” الذي كانوا يتوقعونه حين فاز ترامب لأول مرة عام 2016.
كسب الوقت وإدارة المخاطر
ووفقا للتحليل، تسعى بكين إلى التعامل مع إدارة ترامب الحالية عبر مفاوضات تدريجية، تتضمن حلولاً مؤقتة لمشكلة العجز التجاري. وتُفضل الصين مثل هذا النهج لأنه يسمح لها بتجنب معالجة المشكلات الهيكلية العميقة في اقتصادها، مثل الدعم الحكومي الواسع للصناعات المحلية. وتبدي استعداداً لزيادة مشترياتها من المنتجات الأمريكية مقابل تخفيف القيود على تصدير التكنولوجيا المتقدمة إليها، كما تطرح فكرة وضع حدود طوعية على صادرات بعض المنتجات، مثل البطاريات، للولايات المتحدة.
هذا النهج يمنح بكين مساحة مناورة ومرونة، خاصة في ظل غياب التصعيد السياسي من واشنطن. فالصين لا تريد تكرار تجربة عام 2020، حين انحدرت العلاقات إلى أدنى مستوياتها بعد اتهامات أمريكية لبكين بالتسبب في تفشي فيروس كورونا، وما تلا ذلك من تصعيد متبادل.
الخطوط الحمراء لبكين
رغم الثقة الظاهرة في ملفات التجارة، فإن القيادة الصينية ما تزال حذرة للغاية في ما يتعلق بالسياسة. فهي ترفض تماماً أي محاولة من واشنطن لفصل الحزب الشيوعي عن الشعب الصيني، أو لقيادة تحالفات دولية تهدف إلى عزل بكين. وإذا انحرفت إدارة ترامب عن مسار التفاوض التجاري إلى قضايا تايوان، أو حقوق الإنسان، فإن الصين جاهزة للرد بقوة.
وتسعى بكين إلى تضمين “بنود انسحاب” في أي صفقة مستقبلية، تمكّنها من التراجع عنها إذا ما اتخذت الولايات المتحدة إجراءات معادية. وتحتفظ بمرونة في استخدام أوراق ضغط اقتصادية، في حال شعرت بأن العلاقة تعود إلى مسار المواجهة.
بينما يخطط المسؤولون الصينيون للمرحلة المقبلة، يدركون تماماً أن هذه المرحلة قد لا تدوم. ورغم حرصهم على فتح قنوات مباشرة مع ترامب لتثبيت علاقة تجارية مستقرة لثلاث سنوات مقبلة، إلا أن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات الرئيس الأمريكي قد يُفشل الرهانات الصينية.
وتتخوف بكين من أن ثقتها المتزايدة في موقفها التفاوضي قد تجعلها ترتكب خطأ استراتيجياً، فتُفاجأ برد أمريكي أكثر حدة يعيد العلاقات إلى دوامة من التوتر والعداء. ولهذا، وعلى الرغم من التفاؤل الحذر، فإن النخبة السياسية في بكين تعتبر أن التدهور الجديد في العلاقات ليس احتمالاً بعيداً، بل نتيجة حتمية مؤجلة.
في النهاية، ورغم شعور الصين بأنها باتت تمسك بزمام المبادرة في ملف التجارة، إلا أن غموض مستقبل العلاقة مع إدارة ترامب يبقي على حالة التأهب القصوى. بالنسبة لبكين، الصفقة التجارية ليست نهاية الطريق، بل مجرد هدنة في صراع طويل لم تنتهِ فصوله بعد.
aXA6IDE4NS4yNDQuMzYuMTM3IA==
جزيرة ام اند امز