البنية التحتية للبيانات في أمريكا تتآكل.. اقتصاد يُدار بالافتراضات

الأرقام أكثر غموضا مع الوقت
قال تقرير نشرته مجلة «الإيكونوميست» إن مئات الأمريكيين يخرجون يومياً إلى الشوارع لجمع الأسعار لصالح مكتب إحصاءات العمل (BLS)، وهو الهيئة الحكومية المسؤولة عن تتبع البيانات الاقتصادية في الولايات المتحدة.
ويقوم هؤلاء الجامعون بجمع أسعار كل شيء، من إيجارات الشقق وتحاليل الدم إلى تذاكر السينما. وتُستخدم هذه البيانات في إعداد مؤشر أسعار المستهلك (CPI)، وهو أداة حيوية لقياس التضخم. لكن قدرة المكتب على الحفاظ على هذا النظام تتعرض لتآكل خطير.
ووفقا للتقرير، ففي يونيو/حزيران الجاري، أعلن المكتب أنه توقف عن جمع بيانات الأسعار في مدينتي لينكولن بولاية نبراسكا وبروفو بولاية يوتا. وفي نفس الشهر، تم إلغاء مدينة بوفالو، نيويورك. والأسوأ من ذلك، أنه بحلول أغسطس/آب، سيتوقف جمع بيانات أسعار المنتجين في 34 صناعة، مثل صناعة الجير والذخيرة وأدوات الطهي المعدنية. وعلل المكتب هذه التخفيضات في بيان مقتضب قائلاً: “الموارد الحالية لم تعد قادرة على دعم جهود الجمع”.
ويرجع هذا التراجع إلى مشكلتين رئيسيتين طويلتي الأمد. أولاً، هناك تراجع في تجاوب الأمريكيين مع الاستبيانات. فقد انخفض معدل الاستجابة لمسح التوظيف الأساسي من 93% في عام 2000 إلى 83% في عام 2019، ثم إلى 67% فقط بعد الجائحة. وثانيًا، انخفض التمويل المخصص للوكالات الإحصائية. ففي العقدين الماضيين، تراجع تمويل الكونغرس الحقيقي لمكتب إحصاءات العمل، ومكتب الإحصاء، ومكتب التحليل الاقتصادي بنسبة 18%، رغم ارتفاع الأجور وتكاليف جمع البيانات.
وكانت النتيجة هي تفريغ هذه المؤسسات من مواردها. على سبيل المثال، انتقل مكتب إحصاءات العمل من مقره الفخم قرب الكابيتول إلى مبنى أرخص في ضواحي ولاية ماريلاند، حيث يشارك العاملون الكافيتريا مع جهات أخرى. ومنذ عام 2019، لم يتم استبدال الموظفين الإداريين الذين تقاعدوا، ويُقال إنه لا يوجد سكرتير واحد في المكتب اليوم.
ويقول العاملون في الداخل إن نسبة الموظفين المتبقين في الوكالات الثلاث لا تتجاوز 60%، نتيجة لتجميد التوظيف خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفصل الموظفين الجدد. هذا النقص يعني عددًا أقل من الجامعين الميدانيين، مما يضطر الإحصائيين إلى استخدام تقديرات. فعلى سبيل المثال، إذا لم تتوفر الكمثرى في متاجر أتلانتا، أو لم يتوفر من يجمع الأسعار، فإنهم يستخدمون سعر التفاح بدلاً منها، أو سعر الكمثرى في مدينة أخرى مثل ناشفيل.
وخلال الجائحة، ارتفعت نسبة السلع والخدمات المُقدّرة (أو “المحسوبة”) في مؤشر الأسعار من متوسط 8% إلى 16%. وفي أبريل/نيسان ومايو/أيار من هذا العام، قفزت النسبة إلى 30%. وهذا يثير قلقًا كبيرًا بشأن دقة بيانات التضخم، في وقت تعد فيه أساسية لصنع القرار السياسي.
تدهور جودة البيانات
ويحذر الخبراء من أن تدهور جودة البيانات له عواقب خطيرة. ويشبّه ويليام بيتش، مفوض المكتب الأسبق الذي عُيّن في عهد ترامب، النظام الإحصائي الأمريكي بالبنية التحتية المادية: “إنها البنية التحتية المعرفية التي يحتاجها الاقتصاد للعمل بكفاءة”. فإذا تم التقليل من التضخم، فقد لا تتماشى مدفوعات الضمان الاجتماعي مع تكاليف المعيشة. وإذا بالغت البيانات في تقدير التضخم، فقد يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة دون داعٍ.
رغم هذا الخطر، لا يوجد دافع سياسي كبير لتحسين البيانات. تقول إريكا غروشين، مفوضة المكتب في عهد أوباما: “لا أحد يُنتخب لأنه وعد بتحسين الإحصاءات الفيدرالية”.
وتظهر آثار ضعف البيانات بوضوح. فعندما توقف المكتب عن نشر بيانات أجور سائقي الشاحنات حسب الفئة، قالت نقابة Teamsters إنها لم تعد قادرة على التفاوض على عقود دقيقة. وخلال الجائحة، عندما توقف المكتب عن تتبع أسعار الألماس الصناعي مؤقتًا، تسببت هذه الخطوة في اضطراب حسابات التكاليف في عدة صناعات. وقال بيتش متفاجئًا: “الألماس أثر على الأسعار في كامل المجال الصناعي”.
وسيتم قريبًا إلغاء المزيد من البيانات. فمؤشرات مثل معدل بطالة المراهقين، وإصابات العمل المميتة، ونسب عضوية النقابات على وشك الاختفاء. هذا التآكل في البيانات يُضعف قدرة صانعي السياسات والاقتصاديين والشركات على اتخاذ قرارات مستنيرة.
وقد تصبح الأزمة أسوأ. إذ يقترح ميزانية ترامب تخفيضًا إضافيًا في تمويل المكتب قدره 56 مليون دولار، أي بنسبة 8%. وبالرغم من أن البيانات الرقمية من الإنترنت تقدم بعض الطمأنينة، كما يقول ألبيرتو كافالو من جامعة هارفارد، فإنها لا يمكن أن تعوّض عن دقة واتساع جمع البيانات التقليدي.
في الوقت نفسه، تستمر القرارات السياسية في الاعتماد على بيانات غير مكتملة. فالرسوم الجمركية التي يقترحها ترامب مثال على ذلك. وقد أقرّ بأن هذه الرسوم قد ترفع الأسعار على المستهلكين، مازحًا بأن الأطفال قد يحصلون على “دميتين بدلاً من ثلاثين”، وقد تكون الدميتان أغلى. لكن، مع توقف المكتب قريبًا عن تتبع تكلفة إنتاج الدمى، سيكون من الصعب حتى تقييم أثر هذه السياسات.
وعلى عكس الطرق والجسور، التي تنهار عند تدهورها، فإن انهيار البنية التحتية للبيانات لا يُرى بالعين المجردة—لكن عواقبه وخيمة. بدون استثمارات عاجلة، تتآكل أسس المعرفة الاقتصادية في أمريكا بهدوء.
aXA6IDE4NS4yNDQuMzYuMTM3IA== جزيرة ام اند امز