تقنية

أعماق البحار.. جبهة الحرب القادمة في أوروبا؟


بين التراجع الأمريكي عن لعب دور الضامن الأمني التقليدي، وتصاعد الصدامات الجيوسياسية بين روسيا والغرب، تبدو البنية التحتية الأوروبية تحت البحر ساحة صراع جديدة وأكثر خطورة.

فالحرب لم تعد تقتصر على ميادين القتال التقليدية، بل انتقلت إلى جبهات صامتة، حيث يمكن لتخريب كابل بحري أو خط كهرباء أن يُربك اقتصاداً بأكمله أو يُطفئ قارة في عزّ الشتاء.

وبينما يزداد اعتماد أوروبا على الطاقة المتجددة والتقنيات المتصلة عبر الألياف البصرية، فإن هشاشتها في مواجهة هجمات غير تقليدية تثير أسئلة مقلقة حول مدى استعدادها لسيناريوهات الحرب القادمة، خاصة في ظل تهديدات تُنسب إلى موسكو دون إعلان مسؤولية، ولكن برسائل لا تحتمل التأويل.

تخريب صامت وهجمات غامضة

قبل العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، كان إليا إيلغين، نائب قائد خفر السواحل الفنلندي، متخصصاً في إنقاذ الأرواح وسط البحار. أما اليوم، فقد تغيرت مهمته كلياً: مطاردة السفن المشتبه بها، تلك التي تتصرف بشكل غريب قرب الكابلات البحرية الحيوية لأوروبا.

يقود إيلغين أسطولاً من الرادارات، والزوارق، والمروحيات، تغطي مساحة بحرية بحجم بلجيكا، في محاولة مستمرة لرصد ما يبدو أنه حملة تخريب منهجية.

وعلى الرغم من هذه الجهود، استمرت الحوادث. في خليج فنلندا وحده، وقعت حادثتان في الأشهر الثمانية عشر الأخيرة، فيما سُجّل ما لا يقل عن 6 هجمات على الكابلات في بحر البلطيق منذ عام 2022، أفضت إلى تدمير 11 كابلاً بحرياً على الأقل.

ورغم أن هذه العمليات لم تؤدِّ إلى انقطاع الكهرباء أو انهيار شبكات الإنترنت حتى الآن، إلا أنها أثارت قلقاً استراتيجياً بالغاً في العواصم الأوروبية: ماذا لو كانت الهجمات القادمة أكثر جرأة؟ ماذا لو كانت موسكو تختبر حدود الرد الغربي على نوع جديد من الأعمال العدائية؟ وهل يصبح التخريب البحري إعلاناً للحرب في لحظة ما؟

أصابع اتهام دون أدلة

لا تملك أوروبا دليلاً قاطعاً على تورط روسيا في هذه العمليات التخريبية، إلا أن السياق السياسي، وطبيعة الأهداف، وتوقيت الضربات، كلها تعزز فرضية مسؤولية موسكو غير المعلنة.

وزير الطاقة الليتواني زيغمينتاس فيتشوناس قال لـ«بوليتيكو»: «هذه الأنشطة التخريبية تخدم مصالح روسيا.. هذا هو التفسير الوحيد الممكن».

الهدف الروسي المحتمل ليس فقط الأضرار المباشرة، بل بثّ شعور بالهشاشة والقلق داخل المجتمعات الأوروبية. فمجرد إيحاء بأن روسيا قادرة على ضرب أعصاب القارة التحتية، دون إطلاق رصاصة واحدة، يكفي لإرباك الأسواق وزعزعة الثقة، ودفع العواصم الغربية إلى التردد في دعم أوكرانيا أو اتخاذ خطوات تصعيدية.

البحر تحت الحصار

ورغم الجهد الأوروبي المتصاعد، فإن الواقع التقني لا يبعث على الطمأنينة. عمق بحر البلطيق لا يتجاوز 52 متراً، وخليج فنلندا بالكاد يصل إلى 38 متراً، ما يجعل من الكابلات البحرية هدفاً سهلاً لأي مرساة تُسحب عمداً.

ويقول الخبراء، وفق «بوليتيكو»، إن العملية لا تحتاج أكثر من رشوة قبطان ليرتكب ضرراً جسيماً مقابل تكلفة زهيدة.

خفر سواحل فنلندا يراقب ناقلة نفط يُشتبه في قطعها ربط الكهرباء

كابلات الإنترنت، التي لا يزيد عرضها عن ذراع الإنسان، مدفونة تحت نصف متر فقط من قاع البحر. أما كابلات الكهرباء فهي أثقل وأقوى، لكنها أيضاً معرضة للتدمير إذا سُحبت مرساة بطريق مباشر. مثلما حدث مع السفينة الصينية «Yi Peng 3»، التي قطعت كابلين بين فنلندا وإستونيا أواخر العام الماضي، دون أن تتمكن أي دولة أوروبية من تفتيشها بجدية بسبب الحصانة الدولية.

الإصلاح، بدوره، مهمة شاقة. إذ لا توجد أكثر من 80 سفينة إصلاح كابلات في العالم، وتستغرق العملية من أسبوعين إلى عدة أشهر، بكلفة قد تصل إلى 150 مليون يورو للحادثة الواحدة.

وقف الردع الأمريكي 

وتعقّد الأمور أكثر أن الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترامب، تبتعد شيئاً فشيئاً عن التزاماتها التقليدية تجاه حلفائها الأوروبيين، بينما يواصل ترامب تبني خطاب يُضعف الناتو ويقوّي رواية الكرملين.

هذا الانكفاء الأمريكي يشجّع على توسيع نطاق التخريب من بحر البلطيق إلى بحر الشمال، حيث تمر أنابيب الغاز الرئيسية التي تزود أوروبا بالطاقة.

الدول الأكثر عرضة للخطر هي الجزر: إيرلندا، التي لا تملك قدرات دفاعية بحرية وتستورد الكهرباء عبر كابلات محدودة، ومالطا، التي تعتمد على كابل واحد لتأمين ربع حاجتها من الطاقة.

وفي حال تزامنت هجمات الكابلات مع وقف صادرات الغاز الروسي، فإن سيناريو أزمة شتوية كارثية يصبح أكثر واقعية.

رد أوروبي حذر

أدرك الناتو والاتحاد الأوروبي حجم الخطر المتنامي، فأطلق الحلف برنامج «الحارس البلطيقي» لتعزيز المراقبة العسكرية الجوية والبحرية.

كما خصص الاتحاد الأوروبي 540 مليون يورو لبناء بنية تحتية جديدة وشراء كابلات وسفن إصلاح احتياطية.

بعض الدول قررت التحرك منفردة، فقد أدرجت فنلندا حماية البنية التحتية ضمن استراتيجيتها الدفاعية الشاملة، أما إستونيا وليتوانيا فإنهما تناقشان قوانين لمصادرة السفن المشبوهة حتى خارج مياهها الإقليمية.

لكن المشكلة القانونية لا تزال عائقاً كبيراً. فالقانون الدولي لا يمنح الدول حق التدخل أو المصادرة في المياه الدولية، حيث تُعتبر السفن في «مرور بريء»، وتخضع لسلطة دولة العلم التي ترفعها — وغالباً ما تكون دولاً بعيدة أو متراخية.

جبهة الحرب القادمة؟

في عرض البحر، وسط الأمواج المتلاطمة قبالة سواحل فنلندا، يقف إليا إيلغين في مقصورة زورق دوريات، يراقب الشاشات ويشير إلى مواقع الكابلات، ويقول بقلق: «بعض السفن تبدو وكأنها تعبث بإشاراتها.. ما يجعلها شبه غير مرئية».

ويضيف: «هذه المياه ضحلة جداً. أي عطل بسيط قد يؤدي إلى كارثة».

ووفق «بوليتكيو» فإن واقعا جديدا يتشكّل بهدوء، لكنه لا يخلو من التهديد. فأوروبا لم تعد تملك ترف التجاهل، ولا خياراً آخر سوى التأقلم والاستعداد، فالمعركة القادمة قد لا تُخاض فوق الأرض، بل تحت البحر.

aXA6IDE4NS4yNDQuMzYuMTM3IA== جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى